إن من أهمّ مظاهر الحضارة الإسلامية أنها استطاعت أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في جميع الشعوب التي بلغها المسلمون، ومنها شعوب البلدان الأوروبية، حيث انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في العالم الأوروبي، ونهل علماء أوروبا من المصادر العربية الأصلية، ووجدوا أنها تراث علمي عظيم، فاشتغلوا بدراسته وتحليله، وساهم ذلك في بناء النهضة العلمية لأوروبا، وإثراء الفكر الأوروبي على مدى قرون من الزمن.
لقد كان للعلماء المسلمين دور كبير في بناء النهضة العلمية العالمية، حيث قدموا لأوروبا زاد نهضتها، بشهادة العلماء الغربيين الذين اعترفوا بشكل منصف بقيمة الإسلام الحضارية، ومن بينهم العالم الشهير (إميل درمنجم)، في كتابه: (القيم الخالدة في الإسلام).. يقول: "إن حضارة الإسلام تقوم على رسالة سماوية، نظامها الاجتماعي يقوم على أسرة متماسكة، ونظامها الاقتصادي يعتبر المال وسيلة لا غاية، ويحترم الملكية الفردية غير المستغلة، وثقافتها تستخدم العقل في كسب المعارف، ولا شك أن لدى المسلمين أكبر ذخيرة من القيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية".
لقد كان تأثير الحضارة الإسلامية في العالم الغربي المسيحي كبيرًا، فبينما كانت أوروبا تعيش في ظلام القرون الوسطى، وتعاني شعوبها – منذ سقوط روما – أقسى صنوف العذاب من الفقر والجهل والمرض لفترة جاوزت مئات السنين، كانت العواصم في الوطن العربي الكبير؛ كبغداد زمن العباسيين، والقاهرة زمن الفاطميين، وقرطبة زمن الأندلسيين، تزخر بالازدهار الحضاري الزاهي، وتسطع أنوارها المعرفية لا على بلدان المنطقة فحسب، بل جاوزتها إلى البلدان الأوروبية ودخلت جامعاتها.
أثبت المستشرق الصقلي "أماري" أن صقلية مدينة للعرب بحضارتها، كما أن إيطاليا مدينة لصقلية باقتباس معالم الحضارة العربية، وقد أدى هذا إلى ابتكار الشعر الغربي. ومنذ ذلك الحين، بدأت العناية بالشعر، ما أدى إلى نهوض الشعر الإيطالي
وقد انتقلت الثقافة الإسلامية إلى أوروبا المسيحية، عن طريق معابر ثلاثة:
عبر الشرق العربي في زمن الحروب الصليبية (سوريا)
فلقد كانت سوريا – وما ارتبط بمسرحها من حروب صليبية – ذات أثر فعال في هذا الميدان، حيث انسابت بعض المصطلحات العربية إلى البلاد الغربية، وأثرت الحروب الصليبية في تطور فن الحرب عند الغربيين، لا سيما فيما يتعلق ببناء القلاع ذات الحوائط المزدوجة، هذا بالإضافة إلى ما أدت إليه الحروب، من تقدم حركات الحصار، واستعمال المجانيق، واستخدام الدروع للفرسان وخيولهم، والمراسلة الحربية عن طريق الحمام الزاجل.
كما انتقلت نباتات وحاصلات وأشجار جديدة، من شرق البحر المتوسط إلى غربه، مثل الثوم، والبطيخ والأرز، والليمون، وانتشرت في الغرب العقاقير والأصباغ والتوابل الشرقية، وكثر استعمال وصناعة الأقمشة التي نسبت إلى بلدان الشرق.
عبر صقلية
وهي المعبر الثاني الذي انتقلت من خلاله حضارة الإسلام إلى غربي أوروبا، حيث صار للثقافة الإسلامية شأن كبير. وقد تحدث "رينالدي" عن تأثير اللغة العربية في جزيرة صقلية، فقال: "إن الجزء الأعظم من الكلمات العربية (الباقية في الإيطالية)، التي تفوق الحصر، دخلت اللغة الإيطالية لا بطريق الفتح العربي، بل بطريق الحضارة، التي كثيرًا ما تؤلف بين مظاهر الحياة المختلفة".
ولقد اضطرت مدينة جنوة أن تؤسس مدرسة لتعليم اللغة العربية سنة 1207م، ويدل على ذلك وجود كلمات عربية في لغة هذه المدينة، وفي جميع اللغات العامية في جل المدن الإيطالية التي كانت تتّجر مع الشرق وصقلية، وقد دخلت إليها مع التجارة العربية، ولا تزال معاجم لغتهم تحفظ كثيرًا منها.
وأثبت المستشرق الصقلي "أماري" أن صقلية مدينة للعرب بحضارتها، كما أن إيطاليا مدينة لصقلية باقتباس معالم الحضارة العربية، وقد أدى هذا إلى ابتكار الشعر الغربي. ومنذ ذلك الحين، بدأت العناية بالشعر، ما أدى إلى نهوض الشعر الإيطالي.
وفي ذات السياق يقول رينالدي: "لم يساعد العرب على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي فحسب، بل إنهم أمدوا قصصنا (بشكلها ومادتها)، وهذا ما يؤيد ما يذهب إليه بعض المفكرين من أن دانتي، الشاعر الإيطالي، اقتبس موضوع (الكوميديا الإلهية) من رسالة الغفران للمعري".
إن النفحة العربية التي هبت نسماتها الزكية على ديار الإيطاليين، علمتهم كيف يسلكون سبل الحياة الكريمة، وعلمت أبناءهم القراءة والكتابة وشتى العلوم بعد أن كانوا أميين، وعلمتهم الصناعات المختلفة، وأصول الزراعة والحياكة، وشاركهم العرب في ضروب التجارة، التي درّت عليهم الثروات الطائلة.
لقد كان تأثير الحضارة الإسلامية في العالم الغربي المسيحي كبيرًا خلال العصور الوسطى، حيث انتقلت مؤلفات علمية كثيرة من مختلف العلوم والفنون إلى أوروبا، وترجمت إلى اللغات اللاتينية مرات متعددة، وكانت تدرَّس في المؤسسات والمعاهد والجامعات
عبر إسبانيا
لما فتح المسلمون الأندلس ووجدوا أهلها يعيشون في جهل مطبق، نقلوهم إلى رحاب العلم، وعمروا البلاد، وأحيوا الأرض الميتة، وزرعوها بأنواع الفواكه والثمار التي لم تكن موجودة عندهم، وقاموا بإحصاء السكان، ومراقبة الأسواق، وازدهرت التجارة، وقاموا بتصنيع أنواع من الصناعات، حتى بلغت الذروة في القرن العاشر الميلادي، وأصبحت عاصمة الخلافة قرطبة يضرب بها المثل في بنائها والخدمات التي رافقت البناء، وحدائقها الغناء وسواقي المياه النقية، وقد نالت اللغة العربية إعجاب أهل شتى البلاد المجاورة فأخذوا يتحدثون بها.
وقد قام الأوروبيون بترجمة الكثير من مؤلفات المسلمين إلى اللاتينية كما ترجموا كتب جالينوس وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، ما سهل نقل العلوم والمعارف العربية الإسلامية إلى أوروبا. وقد بلغت العاصمة قرطبة أيام عز العرب درجة عالية من التقدم الثقافي، حيث ازدهرت العلوم والآداب والفنون وأقام العرب المعالم العمرانية والمعرفية، وخاصة في عهد الخليفة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، الذي لقب بـ (صقر قريش).
وفي الوقت الذي تولى فيه عبد الرحمن أمر الأندلس، بدأ دور قرطبة في توجيه دفة الأمور، وبرزت إلى قمة الوجود لتشارك عواصم العالم المتحضر -إذ ذاك- في السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية، وأصبحت عاصمة الحضارة العربية في إسبانيا كلها، وأنشأ حكامها مدارس للطب والفلسفة والعلوم والفنون الأخرى، وبذلوا المال في سخاء، إذ كانت دولتهم قد بلغت درجة عظيمة من الثراء والتقدم.
كما أرسل الملك عبد الرحمن الثالث (912-921م) لجمع الكتب واجتذاب العلماء، للبحث والدرس والتأليف، فأصبحت قرطبة موطنًا للعلوم، وأصبح فيها عدد ضخم من المستشفيات والأطباء والصيادلة، والكيماويين وعلماء النبات، والرياضيات والفلك والفلسفة، وكانت جامعة قرطبة ومكتبتها مراكز للعلوم والترجمة، من اليونانية والهندية (وغيرها من الكتب القديمة) إلى اللغة العربية.
إن ما أخذته الحضارة الأوروبية من علوم وثقافة عن المسلمين كان له الأثر الكبير في تقدم الغرب الذي كان أشبه بـ (صحراء قاحلة)، لم ينبت فيها أي شيء، يغطيها ظلام دامس شديد، وتغلفها أفكار الكنيسة المثبطة التي لا تتماشى والعلم
لقد كان تأثير الحضارة الإسلاميّة في العالم الغربي المسيحي كبيرًا خلال العصور الوسطى، حيث انتقلت مؤلفات علمية كثيرة من مختلف العلوم والفنون إلى أوروبا، وترجمت إلى اللغات اللاتينية مرات متعددة، وكانت تدرَّس في المؤسسات والمعاهد والجامعات، ويُعتمد عليها كمراجع أساسية؛ ولذلك يعترف كثير من المستشرقين بعظمة الدور الذي قامت به الثقافة الإسلامية، في إثراء الفكر الأوروبي لفترة طويلة من الزمن، استمرت لقرون عديدة.
يقول المستشرق الألماني "سان سيمون" في كتبه "علم الإنسان": "إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوروبا الحديثة". أما "شبرل" عميد كليه الحقوق بجامعة "فيينا" آنذاك، فقال في مؤتمر الحقوق سنة 1927: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد (صلى الله عليه و سلم) إليها، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا، أن يأتي بتشريع، سنكون نحن -الأوروبيين- أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفَي سنة".
إن ما أخذته الحضارة الأوروبية من علوم وثقافة عن المسلمين كان له الأثر الكبير في تقدم الغرب الذي كان أشبه بـ (صحراء قاحلة)، لم ينبت فيها أي شيء، يغطيها ظلام دامس شديد، وتغلفها أفكار الكنيسة المثبطة التي لا تتماشى والعلم؛ خوفًا على مقامها ومركزها في المجتمع الذي أغرته طويلًا بخرافات وترهات ما أنزل الله بها من سلطان، في الوقت الذي كانت فيه الحضارة الإسلامية تشق طريقها، وتنشر علومها وثقافتها في الأصقاع انطلاقًا من مبادئها القرآنية السامية وآدابها الحميدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.