لطالما كان الحجر هو الوقود الذي يزيد من وهج النار قوة، وهو الركن الذي تركن إليه النفوس لتحتمي، وهو السلاح الذي يجعلك في مأمن من غدر أو ضربة مباغتة..
والحجر هو الصلب المؤنس والمعين، فكان رمزًا للمقاومة وتحدي القوة العسكرية، ودليل الوحدة والتضامن واستمرارية النضال، ناهيك أنه أداة متاحة للتعبير عن ثوران الغضب والإحباط، ولعله كان الرمز الذي حرك مشاعر الرأي العام العالمي الحر، باعتباره شفرة البساطة والبراءة التي واجهت الآلة العسكرية.
لذلك شكلت الأيقونة الحجرية صمودًا، وبنت جيلًا عرف "بأطفال الحجارة" الذين كبروا بصلابة حجارة السجّيل المفضية إلى الحرية والاستقلال.. فتحولت وتغيرت أدوات النضال معهم وفق متطلبات العصر والحاجة إلى حضور مستمرّ في المشهد العالمي، فأثبتوا أنهم هم لا غيرهم من يعيد صياغة المصطلحات، ويضع المواصفات لأمة ضحكت من خذلانها الأمم.
المقاومة بدأت بالحجر كردة فعل تجاه العدوان السافر، ثم تدرجت إلى المظاهرات والاعتصامات واستثمار المناسبات الدينية لإيقاظ الأمة الإسلامية من غفوتها الطويلة، مرورًا بالسكاكين التي كانت وما زالت حاضرة في مشهد المقاومة
في كثير من المشاهد التي أسّست فصول وأبعاد المقاومة الفلسطينية؛ أجمع العالم على ضعف وخوف الجندي المدجج بالسلاح والدعم أمام تلك الحجارة، التي لم تكن يومًا حجارة صماء لا تنطق ولا تنتقم؛ بل كانت مقذوفة تتوهج بقوة مبدأ "طيور الأبابيل"، متجاوزة حجمها الضئيل وشكلها البسيط.. وعلى ذات الإيمان المتأصل في نفس المؤمن كان للبيت "الكعبة" ربّ يحميه، عندما حملت طيور الأبابيل حجارة من سجيل للدفاع عن الكعبة ضد أفيال أبرهة الحبشي.
على ذات المنطق والأبعاد الإيمانية، كان لفلسطين جنود مردفون ومسومون، حملوا الحجر الذي يتجسد فيه تاريخ طويل من النضال ورسوخ المبدأ، الذي اتكأ على قوة الإيمان في حمل رسالة الأحقية والذود عن الحق المسلوب؛ فالحجر قوة إلهية وكرامة تحركت من أرضها لتستقر في أيادٍ طاهرة نقية، سددت الرمي ووحدة الصف، وأربكت الحسابات الجيوسياسية والعسكرية على أرض الواقع.. وأولئك هم حماة عرين الأمة وصوتها آجلًا أو عاجلًا.
منذ أواخر الثمانينيات، وتحديدًا عند انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لم يجد الفلسطيني الحرّ أمامه إلا الحجر للتعبير عن حقّه وإبداء مقاومته ورفضه، فلم يكن رمي الحجر باليد أو بالمقلاع على الآلة العسكرية لإلحاق الضرر فحسب، بل كان شرر التحدي وعنفوان الصمود من المسافة صفر، والتي منحت تلك الأجيال الثقة في تغيير المشهد برمّته.
فصورة حامل المقلاع التي نقلتها وكالات الأنباء العالمية آنذاك على خجل لم تصل إلى كل حر في العالم، لاستحكام مقصّ الرقيب على النشر المحدود، والتحكم في المعلومات وتسييسها لأغراض استعمارية، إلا أنها لم تخلف وراءها إلا العزيمة والإصرار وعدم التنازل عن الحقّ، مهما كان مقدار الخذلان عن الدعم والمساندة من الجيران أو المشتركين في ذات القضية، لأن المقاومة تقوم على متغيرات الواقع، ولا تركن إلى حلّ واحد، بل هي دائمة البحث عن بدائل تعكس تطورها وإصرارها.
إنّ التحول الذي أكسب المقاومة ثقتها في رسالتها ومبدئها هو سرعتها في التفاعل مع المتطلبات والمتغيرات، عبر نظرة عميقة وبعيدة تحافظ على جوهر النضال الفلسطيني، وتوحيد الكلمة؛ لذلك فالمقاومة بدأت بالحجر كردة فعل تجاه العدوان السافر، ثم تدرّجت إلى المظاهرات والاعتصامات واستثمار المناسبات الدينية لإيقاظ الأمة الإسلامية من غفوتها الطويلة، مرورًا بالسكاكين التي كانت وما زالت حاضرة في مشهد المقاومة.. لتصل إلى أدوات أكثر إيلامًا تدوي في العمق الإسرائيلي.
وهكذا كان الوصول إلى ثورة التسلح الذي أنهى أسطورة الاعتقاد بقوة الجيش الإسرائيلي وقوة "الميركافا" التي لا تقهر، وأدوات أخرى أكثر وقعًا سُخرت لنقل المشهد إلى كل بقاع العالم، لتؤسّس المقاومة حركات أخرى تتبلور في منظومة الحرية، وذلك باستثمار الثورة التقنية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي وثقت بدورها الانتهاكات، وعززت الرسائل السياسية، فحشدت الدعم الدولي وحرّكت الرأي العام العالمي لفهم ما يدور هناك، كما أنها عرّت دسائس المقربين والجيران، وأزاحت اللبس عن الأفكار التي تقوّض مبدأ المقاومة.
العزيمة والتحدي اللذان جسدهما أطفال الحجارة لتحفيز التضامن الدولي بمختلف توجهاته، هما ذاتهما يسريان في تلك الكلمات التي تخرج دون تحضير أو ورقة مكتوبة أو سيناريو أعد مسبقًا، تنزل على كل ذي قلب كالسيف القاطع بأن الرجولة تحتاج إلى مبدأ يتجاوز عتبات الخوف
لم يكن "عبد الرحمن بطاح" – أو عبود كما هو معروف – في ظهوره اليومي يبتعد عن أطفال الحجارة.. ولم يكن عبود بحضوره وإنسانيته التي تكسوها الثقة وقوة المعتقد إلا إحدى المفردات الفلسطينية، التي أثرت المشهد العام برمته في تعزيز الغيرة الشعبوية، وممارسة النضال بقوة الأداة عبر استثمار واستخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، التي تعدّ سلاحًا فعالًا في نقل الحدث وتحليله وتصوير الاعتداءات بآنية وقوعها.
فتلك الأدوات أتاحت الفرصة في توثيق الانتهاكات الإجرامية التي قامت بها آلة الحرب.. فالقصة تصل دون مساحيق تجميل، أو دون الوقوع في مزاج مقصّ الرقيب، وعليه تغيرت أدوات النضال من حجر يُقذف بكل إيمان إلى محتوى ينقل الصورة بكل عفوية وصدق، تتصاعد فيه نداءات العزة والشموخ والكبرياء.
"عبود" أيقونة شعبوية تستنهض الروح الإسلامية والنخوة المتبقية، لذلك فالنداءات التي تأتي منه تعري تخاذل 2 مليار مسلم تجاه ما يحدث، وتستنهض كلماته الإنسانية والشرف الذي وصل إلى الحضيض، ذلك الشاب الذي رضع المقاومة وعدم الرضوخ من المهد فاستقام فكره وقويت شوكته، ها هو اليومَ يقف على خطوط المواجهة المباشرة، إذ يعد كل منشور (محتوى) يقدمه قذيفة يصل دويها وصداها إلى العالم أجمع، ليكون حائط صد ضد الظلم والمطالبة باستعادة الحقوق.
فالعزيمة والتحدي اللذان جسدهما أطفال الحجارة لتحفيز التضامن الدولي بمختلف توجهاته، هما ذاتهما يسريان في تلك الكلمات التي تخرج دون تحضير أو ورقة مكتوبة أو سيناريو أعد مسبقًا، تنزل على كل ذي قلب كالسيف القاطع بأن الرجولة تحتاج إلى مبدأ يتجاوز عتبات الخوف؛ فأولئك يقاتلون ويناضلون ليس عن فلسطين وحدودها، بل يدافعون عن شرف الأمة بأكملها، فهم الذين لا يمكن أن يسامحوا من خذلهم عندما تجتمع الخصوم.
كان بالأمس حجرًا.. فكبر وأصبح اليوم سفرًا يخترق الأثير بذكاء الأداة وقوة وثبات المرسل، فلا تهنأ أعين الجبناء، ولن يكون هناك سلام وأمن دون تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني
"عبود" وآخرون نذروا حياتهم لواقعهم الذي شكلته الأحداث، فارتقت عزائمهم نحو استنهاض الروح الإسلامية وتوحيد الشباب المسلم حول القضية المشتركة، فرسائلهم تتجاوز فكرة توثيق المعاناة لتصل إلى تحفيز المقاومة التي لا بد أن تستمر بكل الوسائل، فذلك هو التأكيد على أن عزم أطفال الحجارة يكبر معهم، والأجيال تحيا بها وتتكيف على شتى الظروف مع البقاء على الجوهر والمبدأ المتأصل والمرتبط بكل حجر وشجر في تلك العراص الطاهرة.. المبدأ الذي يرفع أمتنا الإسلامية إلى مكانتها ويعيد لها تاريخها، فعبود بطاح هو نموذج للشاب الغزي الذي كبر مع المقاومة وتشرب بها، وبه وبأمثاله نقول: لا خوف عليكم مهما كان الخذلان.
كان بالأمس حجرًا.. فكبر وأصبح اليوم سفرًا يخترق الأثير بذكاء الأداة وقوة وثبات المرسل، فلا تهنأ أعين الجبناء، ولن يكون هناك سلام وأمن دون تحقيق العدالة والحرية المطلقة للشعب الفلسطيني.. وجُل الأحداث المؤلمة التي نراها ما هي إلا غربال يكشف سوءات المطبعين والخونة، ويستبين سمات المنافقين البارزة في المشهد السياسي، لأن الله علم أنهم لا خير فيهم، ولذلك ثبطهم، وسدد أهل غزة وفلسطين لأنهم أعدوا العدة لنصرة الحق والإسلام، فقاوموا ولا تنتظروا من الآخرين مددًا أو فزعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.