شعار قسم مدونات

كيف يفهم الإنسان الحديث نفسه؟.. سوبر ماركت الهويات (٣)

إذا لم يكن لدى الإنسان هوية حقيقية وراسخة، يتفهمها ويعيش وفقًا لها، اختل توازنه، وابتعد عن فطرته السليمة (بيكسلز)

"تحقيق الذات".. عبارة يكثر تداولها في عصرنا، ومع ذلك يبقى معناها خرافيًّا، يسعى نحوه الجميع، ولا يصل إليه أحد، فمن من الناس في عصرنا قد جزم أنه حقق ذاته!؟

إننا في عصر السرعة نعاني في فهم ذواتنا وطبيعتها، فكيف لنا أن نحقق شيئًا لا نفهمه، أو أن نسعى في إرضاء ذات لا نفهم ما الذي يرضيها فعلًا؟

في هذه المقالة، نبدأ رحلة جديدة من رحلات البحث عن الهُوية الحقيقية واكتشافها، وسؤالنا الأساسي هو: كيف يفهم الإنسان الحديث نفسه؟

الإنسان بلا هوية لا يولد ليعيش في هدوء، ينمو ويكبر، يتعلم ويزرع ويحصد، إنما يجب عليه أن يعيد بناء نفسه على الدوام، لأنه يخسر المعنى في حياته في اليوم عدّة مرّات، ويهدم ما بناه، ويزهد فيما أراده بشدة، لأنه اكتشف مدى عجزه عن تخلصه من القلق، وتحقيق التوازن

الكم تعويضًا عن الكَيف!

السرعة هي الصفة الأساسية في عالم ما بعد الحداثة؛ سرعة الامتلاك وسرعة الترك، سرعة الإرادة وسرعة الخمول، سرعة الشغف وسرعة الملل.. فالسرعة تحكم كل شيء في نمط حياتنا اليومي؛ وهذا لأن دوافعنا في الحياة تحوَّلت من الاحتياج إلى الرغبة، وبينهما فارق كبير، فمثلًا: أنت حينما تتسوق بدافع الاحتياج، تصبح قائمة مشترياتك واضحة؛ تحتاج إلى الطعام فتشتري مكوناته، وتحتاج إلى الملابس فتشتري ما يكفيك منها، وكذلك حينما تمرض تبحث عن الدواء. فالحاجة واضحة ومُعرَّفة، ويسهل إشباعها وتحقيقها على الأغلب.

أما الرغبة فهي ضبابية، تنشأ في عقل الإنسان فجأة، وتزول بسرعة، ولهذا ترتكز الإعلانات والحيل التسويقية على إضرام الرغبة في الشراء بداخل الإنسان، فيشتري بسرعة، وتنزوي تلك الرغبة أيضًا بسرعة، فيحتاج للشراء مرّة أخرى، وهكذا يدخل الإنسان الحديث في سجن التسوق الذي هو سجن الرغبات التي لا يمكن إشباعها.

إعلان

فمثلًا: حينما تكون الرغبة في طعام مميز وفريد لم تجربه من قبل، لا يمكن أن تحقق هذه الرغبة بسهولة، لذلك لا تتوقف عن التجربة والبحث، وحينما تكون الرغبة في التألق والتميُّز عن الناس، لا تتوقف في شراء الملابس طبقًا للموضة الحديثة! وكذلك حينما تكون الرغبة في اللياقة لا الصحة العامة، لا تتوقف عن شراء المكملات الغذائية والفيتامينات، وتتبع العديد من الحميات الغذائية المكلفة، دون جدوى في وصول محقق، لأن اللياقة أصلًا غير مفهومة، معاييرها متغيرة، فكيف تحقق المتغيِّر بشكل مُحقّق؟!

ولا يخفى عن أي متأمل أننا في عالمنا اليوم باتت تحركنا رغباتنا المشوشة؛ لذلك لا نتوقف أبدًا عن التسوق وطلب المزيد. وعندما لا نصل لمبتغانا، لا نتوقف لنتساءل في جدوى السعي لتحقيق رغبات إعجازية، بل نزيد سرعتنا في الجري!

يقول زيجمونت باومان: "عندما يخذلك الكيف، فإنك تطلب النجاة في الكم. وعندما يكون الدوام غير معقول ولا مقبول، فإن سرعة التغيير هي التي يمكن أن تنجيك"!

يخذلنا الكيف لأننا لا نهدأ لنفهم ذاتنا ونقرر، نطلب الأشياء ونسعى لتحقيقها قبل أن نفكر مليًّا في حاجتنا لتلك الأشياء، نعتنق الأفكار وفقًا للمظاهر لا وفقًا لهويتنا الراسخة وطبيعتنا الإنسانية؛ لذلك أصبح الإنسان الحديث، المعتمد على هويات هشّة سطحية، سريع التأثر بما يراه في وسائل التواصل الاجتماعي، يستجيب للإعلانات ويقلد نجوم السينما، دون وعي أو إدراك.

تحوّلت الهويات في عالم ما بعد الحداثة إلى مسؤولية يقع تكوينها على الفرد وحده، فيجب أن يعمل ويكد ليلًا ونهارًا حتى يوفر ثمن شراء مكانته الاجتماعية، والتي تكون باهظة الثمن، وتتعلق بكل ما هو سطحي وظاهريّ من مسكن وملبس وسيارة

فالحياة اليومية الحديثة باتت كحلقة دائرية تدور بسرعة، يجري الإنسان بداخلها مثل فأرٍ صغير لا يملك سوى الجري.. وهذه السرعة لا تترك للإنسان فرصة لطرح الأسئلة، وبالتالي لا تترك له الفرصة للفهم، فتنعدم فرص الرسوخ عميقًا، حيث هويته الحقيقية، فيكتفي بالقشور السطحية وتعوزه دائمًا الحاجة إلى المعرفة، أي الحاجة إلى فهم "الكيف". ولا يجد مفرًّا لتعويض ذلك الفراغ الإدراكي إلا بـ "الكم".

إعلان

الفارق بين الهوية والمكانة الاجتماعية

كثيرًا ما ترتبط هوية الإنسان الحديث وعلّة وجوده وطريقته في التعريف عن نفسه، بمكانته الاجتماعية.

وحينما نقول "المكانة الاجتماعية" في هذا العصر، يقفز تلقائيًا إلى رأسك منزل في منتجع فارِه، وسيارة فخمة، وملابس من ماركات معينة، وأسلوب حياة لامع؛ يحصد ملايين الإعجابات على الإنستغرام! فباتت المكانة الاجتماعية تتمحور حول المادة بشكل رئيسي!

وإذا ما ارتبطت هُوية الإنسان بمكانته الاجتماعية، فهذا يعني ارتباط الهوية بأمور ماديّة، لا تستقر أبدًا في الحياة، فهي في صعود وهبوط وتغير دائم، أي إن الإنسان على طول الحياة يفقد هويته مرارًا، ويعاني من أجل اكتسابها، أو تحصيلها!

وهكذا تحوّلت الهويات في عالم ما بعد الحداثة إلى مسؤولية يقع تكوينها على الفرد وحده، فيجب أن يعمل ويكد ليلًا ونهارًا حتى يوفر ثمن شراء مكانته الاجتماعية، والتي تكون باهظة الثمن، وتتعلق بكل ما هو سطحي وظاهريّ من مسكن وملبس وسيارة، والأخطر من ذلك هو الرغبة الدائمة في شراء أسلوب حياة مزيف، يحشر فيه الإنسان نفسه أملًا في أن يلائمه، ظانًّا بأن السعادة تكمن في أسلوب الحياة اللامع الذي يراه أينما تصفح على منصات التواصل.

هنا يعيش الفرد في شقاء لا نهائي، وكد وتعب، يتسوق في سوبر ماركت الهويات، وينتقي هوية يظن أنها تلائمه من بين هويات عديدة، كلها تتعلق بالمظهر وتزييف المكانة الاجتماعية، وطبعًا -وبشكل أساسي- بالشراء والدفع والتداين! حتى يؤمّن كلفة الدخول في مجتمع الرفاه والسعادة، ويا للأسف الذي سيعيش فيه هذا الإنسان حينما يدرك أن مجتمعًا كهذا لا يلائمه، ولا يحقق له أي رفاهية أو سعادة، إنما فقط يجبره للعيش وفقًا لمظاهر مزيفة وأكاذيب تسويقية، تحدد حريته وتعاكس طبيعته.

ووسط هذا كثيرًا ما ينسى الإنسان الحديث أن جدوى الحياة ومعناها لا يمكن اكتسابه من مظاهر تُشترى ماديًّا، شديدة التغير والتقلب والزيادة والنقصان، وإلا لعاش كل من يملك ثراءً فاحشًا في يقين كامل واطمئنان تام!

إعلان

وهكذا يفقد الإنسان توازنه طوال الوقت، فتظهر على السطح مزايا جديدة تمنيه بتحقيق هذا التوازن، نقصان جديد يظهر، خللٌ يبرر له تعاسته، وأنه يجب السعي لإكمال هذا النقصان وتصحيح هذا الخلل، فيهرع نحو تلك المزايا الجديدة، التي تكلفه عملًا هائلًا ومبالغ طائلة، وقلقًا لا يُحتمل.. ولن يصل لمبتغاه.

الإنسان بلا هوية لا يولد ليعيش في هدوء، ينمو ويكبر، يتعلم ويزرع ويحصد، إنما يجب عليه أن يعيد بناء نفسه على الدوام، لأنه يخسر المعنى في حياته في اليوم عدّة مرّات، ويهدم ما بناه، ويزهد فيما أراده بشدة، لأنه اكتشف مدى عجزه عن تخلصه من القلق، وتحقيق التوازن.

فإذا لم يكن لدى الإنسان هوية حقيقية وراسخة، يتفهمها ويعيش وفقًا لها، اختل توازنه، وابتعد عن فطرته السليمة، فنراه يعيش حياة عبثية، تبتعد عن المنطق، قاسية، لا هدوء فيها، فهو يهرع للتداوي بالداء بدلًا من الدواء، فلا يشفى أبدًا من قلقه، ويقوده هذا القلق للارتباك والهدم، والإمعان في الضياع وتقطيع الروابط وهدم الأسس.

يعيش الإنسان الحديث في حالة من التيه الشديد، فلا أرض ثابتة يقف عليها، فهو يتحرك على الدوام بحثًا عن اليقين والأمان والاستقرار، يتحرك بسرعة شديدة في طرق تبدو متنوعة ومختلفة حتى الإرباك

وهذا إنما يحدث لأنه يجهل نفسه، ولا يدرك طبيعة الحياة التي تلائمه، وبالتالي لا يَقرُّ له قرار ولا يلتزم بمسؤوليته تجاه الآخرين والمجتمع؛ لأنه لا يلتزم بمسؤوليته تجاه نفسه، ومسؤولية الإنسان تجاه نفسه هي أن يعرفها ويفهمها، ويدرك جذوره، ويعمل على الاتساق والانسجام مع هذه الجذور؛ أي أن يعيش الإنسان وفقًا لهويته الراسخة، لا وفقًا لهويات مزيفة -وهذه تحدثنا عنها في المقالة السابقة-، ولا تأخذه تلك الهويات المزيفة لأي مكان غير السوق! حيث يدفع باستمرار للمزيد من الشراء، ومراكمة المادة.

كيف يفهم الإنسان نفسه؟!

الإنسان يعجز عن فهم ذاته إلا عبر وسيط آخر، لذلك تعمل النماذج والأسوة عمل هذا الوسيط، الذي يساعد الإنسان على فهم ذاته. والنموذج الصحيح والأسوة الحسنة يُقرّبان الإنسان من فطرته السليمة إذا ابتعد عنها، ويقوّمانه إذا انحرف، والنموذج الصحيح هو ما يتوافق والفطرة الإنسانية السليمة، حينها يكون عين الإنسان الذي يرى بها نفسه، وقد قيل في المثل الشهير: "العين لا ترى نفسها".

إعلان

ولهذا شرع الله -سبحانه وتعالى – الأديان، وأنزل الرُسل، حتى يفهم الإنسان نفسه عبر نصٍّ ثابت لا يتغير، حقيقي لا لبس فيه، يوضح له طبيعته وطبيعة الدنيا، يشرح له حاله ومآله، ويفصِّل له أمور حياته، صغيرها وكبيرها، حتى يفهم الإنسان نفسه أولًا، ثم يفهم طبيعة الحياة التي يعيش فيها، ومن هذا المنطلق يكون استقراره في الحياة.

وما يحدث في عالم ما بعد الحداثة، من هدم للنماذج والقيم، وتهميش للدين، يجعل الإنسان يعيش في حالة ذهول دائم عن ذاته، يغذيها باستمرار بكل ما هو مادي، يعمل على راحتها، وينشغل بالرفاهية أو السعي إليها، أو تزييفها إذا عجز عن تحقيقها، ولا يتخفف أبدًا من قلقه وعدم ارتياحه، شاعرًا طوال الوقت بنقصانٍ هائل يفسد عليه كل حياته، ويتعامل مع الحياة بشكل عشوائي، يحكمه الموقف والرغبة في المتعة الدائمة والمنفعة الكاملة بشكل أناني.

ولهذا يعيش الإنسان الحديث في حالة من التيه الشديد، فلا أرض ثابتة يقف عليها، فهو يتحرك على الدوام بحثًا عن اليقين والأمان والاستقرار، يتحرك بسرعة شديدة في طرق تبدو متنوعة ومختلفة حتى الإرباك، وهذه الطرق في الحقيقة لا تقوده إلا نحو وجهتين لا ثالث لهما؛ مكان العمل، حيث يستهلك الإنسان فيه وقته وجهده بشكل مبالغ فيه، لتوفير مال كافٍ يقوده إلى الوجهة الثانية، وهي السوق؛ حيث خيارات متعددة لا نهاية لها، وأمنيات لا يمكن أن تتحقق، ووعود كاذبة بشراء الهدوء والاستقرار واليقين، وتحقيق السعادة الكاملة!

وأثناء التحرك بسرعة لا وقت للفرد ليفهم نفسه، فضلًا عن إدراك هويته الحقيقية، فيلتقط هويات مزيفة من فوق الرف، لها تاريخ صلاحية محدد، مثلها مثل أي منتج استهلاكي؛ يُشترى من السوق لسد رغبة استهلاكية، ويروّج له بالمغالاة في الخدع التسويقية، وإعطاء وعود برّاقة كاذبة وغير منطقية.

فالإنسان في حاجة دائمة للانتماء لما هو أكبر منه، ولا شيء يحقق هذا الانتماء أوضح من إيمان الإنسان بخالقه، ثم الانتماء إلى الأسرة والمحيط الاجتماعي الأصيل، والأرض التي يعيش عليها.

إعلان

وعبر هذا، يفهم الإنسان ذاته ومتطلباته، ويرى الدنيا على حقيقتها، وأن التشتت ينشأ حينما ينتمي الإنسان للمادة؛ التي هي شديدة التغير والتقلب، فيخسر ذاته كلما خسر شيئًا ماديًّا كان متعلقًا به أيّما تعلق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان